فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (58):

قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أمره بما يفعل تحقق نقضه، أرشده إلى ما يفعل بمن خاف غدره فقال: {وإما تخافن} وأكده إشارة ظهور القرائن ووضوح الأمارت {من قوم} أي ذوي قوة، بينك وبينهم عهد {خيانة} أي في ذلك العهد {فانبذ} أي اطرح طرح مستهين محتقر {إليهم} أي ذلك العهد نبذًا كائنًا {على سواء} أي أمر مستوٍ في العلم بزواله بينكم وبينهم وعدل ونصفه ولا تناجزوهم وهم على توهم من بقاء العهد، وهذا إشارة إلى أن يكونوا على غاية الحذر والفحص عن أخبار العدو بحيث لا يتركونه إلى أن ينقض ثم يعلمون ميله إلى النقض فينبذون إليه عهده لأن ذلك أردع له، فهو أدعى إلى السلم؛ ثم علل جواز النبذ ووجوب النصفة بقوله: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {لا يحب الخائنين} أي لا يفعل بهم فعل المحب لا منكم ولا من غيركم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

وأما قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} يعني من قوم معاهدين خيانة ونكثًا بأمارات ظاهرة {فانبذ إِلَيْهِمْ} فاطرح إليهم العهد على طريق مستو ظاهر، وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم أخبارًا مكشوفًا بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم، ولاتبادرهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد، فيكون ذلك خيانة منك {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} في العهود وحاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بنبذ من ينقض العهد على أقبح الوجوه وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه.
قال أهل العلم: آثار نقض العهد إذا ظهرت، فإما أن تظهر ظهورًا محتملًا أو ظهورًا مقطوعًا به، فإن كان الأول وجب الإعلام على ما هو مذكور في هذه الآية، وذلك لأن قريظة عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله فحصل لرسول الله خوف الغدر منهم به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم عهودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب، أما إذا ظهر نقض العهد ظهورًا مقطوعًا به فههنا لا حاجة إلى نبذ العهد كما فعل رسول الله بأهل مكة فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم من ذمة النبي صلى الله عليه وسلم وصل إليهم جيش رسول الله بمر الظهران، وذلك على أربعة فراسخ من مكة.
والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. اهـ.

.قال الجصاص:

قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} الْآيَةَ.
يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إذَا خِفْت غَدْرَهُمْ وَخَدْعَتَهُمْ وَإِيقَاعَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَفَعَلُوا ذَلِكَ خُفْيًا وَلَمْ يُظَهِّرُوا نَقْضَ الْعَهْدِ فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ، يَعْنِي أَلْقِ إلَيْهِمْ فَسْخَ مَا بَيْنَك وَبَيْنَهُمْ مِنْ الْعَهْدِ وَالْهُدْنَةِ حَتَّى يَسْتَوِيَ الْجَمِيعُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {عَلَى سَوَاءٍ} لِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا أَنَّك نَقَضْت الْعَهْدَ بِنَصْبِ الْحَرْبِ.
وَقِيلَ: {عَلَى سَوَاءٍ} عَلَى عَدْلٍ، مِنْ قَوْلِ الرَّاجِزِ: فَاضْرِبْ وُجُوهَ الْغَدْرِ لِلْأَعْدَاءِ حَتَّى يُجِيبُوك إلَى السَّوَاءِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْوَسَطِ سَوَاءٌ لِاعْتِدَالِهِ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ: يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النَّبِيِّ وَرَهْطِهِ بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمَلْحَدِ أَيْ فِي وَسَطِهِ.
وَقَدْ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ بَعْدَ الْهُدْنَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا نَقَضُوا الْعَهْدَ بِمُعَاوَنَتِهِمْ بَنِي كِنَانَةَ عَلَى قَتْلِ خُزَاعَةَ وَكَانَتْ حُلَفَاءَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إلَى الْمَدِينَةِ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجْدِيدَ الْعَهْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فَلَمْ يُجِبْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ذَلِكَ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى النَّبْذِ إلَيْهِمْ؛ إذْ كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا نَقْضَ الْعَهْدِ بِنَصْبِ الْحَرْبِ لِحُلَفَاء النَّبِيِّ.
وَرُوِيَ نَحْوُ مَعْنَى الْآيَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ النَّمَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الْفَيْضِ عَنْ سُلَيْمٍ وَقَالَ غَيْرُهُ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ، وَكَانَ يَسِيرُ نَحْوَ بِلَادِهِمْ، حَتَّى إذَا انْقَضَى الْعَهْدُ غَزَاهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَوْ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ فَنَظَرُوا فَإِذَا عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَشُدُّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلُّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ» فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} يعني وإن علمت من قوم نقض العهد؛ والخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء، فلا يؤدي الأمانة.
وسمي ناقض العهد خائنًا، لأنه اؤتمن بالعهد فغدر ونكث.
{فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاء}، أي فأعلمهم بأنك قد نقضت العهد وأعلمهم بالحرب، لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على سواء.
وقال القتبي: إذا أردت أن تعرف فضل العربية على غيرها، فانظر في الآية.
وقد ترجموا سائر الكتب؛ ومن أراد أن يترجم القرآن إلى لغة أُخرى، فلا يمكنه ذلك، لأنك لو أردت أن تنقل قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} لم تستطع بهذا اللفظ، ما لم تبسط مجموعها وتظهر مستورها فتقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد، فخفت منهم خيانة ونقضًا، فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم وآذنهم بالحرب، لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على سواء.
ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين}، يعني الناقضين للعهد. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَإِمَّا تَخَافَنَّ} تعلمنّ يا محمد {مِن قَوْمٍ} معاهدين لك {خِيَانَةً} نكث عهد ونقض عقد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر والخيانة كما ظهر من قريظة والنضير {فانبذ إِلَيْهِمْ} فاطرح إليهم عهدهم {على سَوَاءٍ} وهذا من الحان القرآن، ومعناه: فناجزهم الحرب، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك فسخت العهد بينك وبينهم حتى تصير أنت وهم على سواء من العلم بأنك محارب، فيأخذوا للحرب أهبتها وتبرءوا من الغدر، وقال الوليد بن مسلم: على سواء أي على مهل وذلك قوله: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2].
{إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} يعني في نقض العهد.
{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} أي فألق إليهم عهدهم حتى لا ينسبوك إلى الغّدر. بهم. والنبذ هو الإلقاء. قال الشاعر:
فهن ينبذن من قول يصبن به ** مواقع الماء من ذي الغلة الصادي

وفي قوله تعالى: {عَلَى سَوَاءٍ} خمسة أوجه:
أحدها: على مهل، قال الوليد بن مسلم.
والثاني: على محاجزة مما يفعل بهم، قاله ابن بحر.
والثالث: على سواء في العلم حتى لا يسبقوك إلى فعل ما يريدونه بك.
والرابع: على عدل من غير حيف، واستشهد بقول الراجز:
فاضرب وجوه الغد والأعداء ** حتى يجيبوك إلى السواء

أي إلى العدل.
والخامس: على الوسط واستشهد قائله بقول حسان:
يا ويح أنصار النبي ورهطه ** بعد المغيب في سواء الملحد

وذكر مجاهد أنها نزلت في بني قريظة. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {وإما تخافن} الآية.
قال أكثر المؤلفين في التفسير: إن هذه الآية هي من بني قريظة، وحكاه الطبري عن مجاهد، والذي يظهر من ألفاظ القرآن أمر بني قريظة قد انقضى عند قوله: {فشرد بهم من خلفهم} ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة إلى سالف الدهر، وبنو قريظة لم يكونا في حد من تخاف خيانته فترتب فيهم هذه الآية وإنما كانت خيانتهم ظاهره مشتهرة، فهذه الآية هي عندي فيمن يستقبل حاله من سائر الناس غير بني قريظة، وخوف الخيانة بأن تبدو جنادع الشر من قبل المعاهدين وتتصل عنه أقوال وتتحسس من تلقائهم مبادئ الغدر فتلك المبادئ معلومة والخيانة التي هي غايتهم مخوفة لا متيقنة، وحيئنذ ينبذ إليهم على سواء، فإن التزموا السلم على ما يجب وإلا حوربوا، وبنو قريظة نبذوا العهد مرتين، وقال يحيى بن سلام: تخاف في هذه الآية بمعنى تعلم.
قال القاضي أبو محمد: وليس كذلك، وقوله: {خيانة} يقتضي حصول عهد لأن من ليس بينك وبينه عهد فليست محاربته لك خيانة، فأمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إذا أحس من أهل عهد ما ذكرنا، وخاف خيانتهم أن يلقي إليهم عهدهم، وهو النبذ ومفعول قوله: {فانبذ} محذوف تقديره إليهم عهدهم.
قال القاضي أبو محمد: وتقتضي قوة هذا اللفظ الحض على حربهم ومناجزتهم إن لم يستقيموا، وقوله: {على سواء} قيل معناه يكون الأمر في بيانه والعلم به على سواء منك ومنهم، فتكونون فيه أي في استشعار الحرب سواء، وقيل معنى قوله: {على سواء} أي على معدلة أي فذلك هو العدل والاستواء في الحق، قال المهدوي: معناه جهرًا لا سرًا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نحو الأول، وقال الوليد بن مسلم: {على سواء} معناه على مهل كما قال تعالى: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} [التوبة: 2].
قال القاضي أبو محمد: واللغة تأبى هذا القول، وذكر الفراء أن المعنى انبذ إليهم على اعتدال وسواء من الأمر أي بيّن لهم على قدر ما ظهر منهم لا تفرط ولا تفجأ بحرب، بل أفعل بهم مثلما فعلوا بك.
قال القاضي أبو محمد: يعني موازنة ومقايسة، وقوله تعالى: {إن الله لا يحب الخائنين} يحتمل أن يكون طعنًا على الخائنين من الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يريد فانبذ إليهم على سواء حتى تبعد عن الخيانة، فإن الله لا يحب الخائنين فيكون النبذ على هذا التأويل لأجل أن الله لا يحب الخائنين، والسواء في كلام العرب قد يكون بمعنى العدل والمعدلة، ومنه قوله تعالى: {إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} [آل عمران: 64] ومنه قول الراجز: [الرجز]
فاضرب وجوه الغدر الأعداء ** حتى يجيبوك إلى السواء

وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله تعالى: {في سواء الجحيم} [الصافات: 55] ومنه قول حسان بن ثابت: [الكامل]
يا ويح أنصار النبي ورهطه ** بعد المغيَّب في سواء الملحدِ

. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وإمَّا تَخَافنَّ من قوم خيانةً}
قال المفسرون: الخوف هاهنا بمعنى العلم، والمعنى: إن علمت من قوم قد عاهدتهم خيانة، وهي نقض عهد.
وقال مجاهد: نزلت في بني قريظة.
وفي قوله: {فانبذ إليهم على سواء} أربعة أقوال:
أحدها: فألقِ إليهم نقضك العهد لتكون وإياهم في العلم بالنقض سواءً، هذا قول الأكثرين، واختاره الفراء، وابن قتيبة، وأبو عبيدة.
والثاني: فانبذ إليهم جهرًا غير سرٍّ، ذكره الفراء أيضًا في آخرين.
والثالث: فانبذ إليهم على مهل، قاله الوليد بن مُسلم.
والرابع: فانبذ إليهم على عدل من غير حيف، وأنشدوا:
فاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدُرِ الأعدَاءِ ** حتَّى يُجيبُوك إلى السَّواءِ

ذكره أبو سليمان الدمشقي. اهـ.